تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد.

تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد.الكلام على تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد يدور على النقاط التالية :
الأولى : أن تقسيم الأخبار من جهة نقلها إلى آحاد ومتواتر وغير ذلك هو أمر واقعي.
الثانية : أن تفاوت الأخبار في إفادتها للعلم، قضية بدهية.
الثالثة : تحرير محل نسبة أهل العلم هذا التقسيم إلى علوم اليونان.
الرابعة : بيان أنه لا لوم على ابن الصلاح ومن بعده في ذكر المتواتر ضمن علم الحديث.
الخامسة : بيان خطورة مبحث إفادة حديث الآحاد للعلم.
وإليك البيان :
الأولى
إن تقسيم الأخبار من جهة نقلها إلى آحاد ومتواتر وغير ذلك هو أمر واقعي لا يمكن إنكاره.
هناك من الأحاديث ما جاء من طريق واحد ، ومنها ما جاء من طريقين، ومنها ما جاء من ثلاثة طرق، ومنها ما جاء من طرق كثيرة؛ وهذا أمر واقعي يعلمه كل ممارس لهذا العلم الشريف! بل حتى في حياتنا اليومية هناك أخبار تأتي من جهة واحدة، وهناك ما يأتي من أكثر من جهة!
إذا هذا أمر واقعي ينبغي أن لا يكون محل اختلاف!
من أين جاء الاختلاف ؟
جاء الاختلاف في اشتراط صفة وهيئة معينة للنقل، فمن زعم أن من الأخبار ما يأت عن جمع من الصحابة، ويرويه عن كل صحابي تابعيان، ويرويه عن كل تابعي اثنان، وهكذا عن كل واحد منهما يرويه اثنان، إلى أن يصل إلينا على هذه الصفة؛ أقول: من اشترط هذا الوصف ينكر عليه، ويقال له: لا وجود لحديث بهذا الوصف من جهة النقل. فإذا كان هذا هو المتواتر عندك فإننا نقول بناء على كلامك : كل الأحاديث آحاد؛ لأن هذا الوضع لا يوجد في نقل حديث أصلاً.
ومن باب أولى من اشترط في صفة المتواتر من جهة النقل: أن يرويه عن كل صحابي جمع من التابعين، وكذا عن كل واحد من التابعين جمع ممن بعدهم؛ فهذا لا وجود له، فإذا كان هذا هو المتواتر فإن الأخبار كلها آحاد!
هذا محل الإنكار والاختلاف في قضية تقسيم الأخبار من جهة نقلها إلى آحاد ومتواتر.
المقصود : أن تعدد طرق بعض الأحاديث على صفة العموم بدون هذه القيود والأوصاف موجود، فإن من الأحاديث ما يأتي من طريق ومنها ما يأتي من طريقين ، ومنها ما يأتي من طرق كثيرة، بحيث يجتمع في كل طبقة من الطبقات ما يحصل به تلقي جمع عن جمع على صفة العموم لا على صفة أخذ كل واحد منهم بخصوصه عن كل واحد على وجه مخصوص.
هذا أمر واقعي محسوس، إنكاره ومنعه إنكار لواقع محسوس، كمن يقول: لا وجود للشمس!
وليعلم أن نفي المتواتر الذي عناه أبو حاتم محمد بن حبان البستي()، و الحازمي() رحمهما الله، في نفيهما وجود أو تعذر وجود المتواتر في الحديث، وأن الأحاديث كلها آحاد؛ تسلط على هذه الهيئة المخصوصة للمتواتر.
والذي عناه أهل العلم بالمتواتر هو وجوده بغير هذه الصفة التي يذكرها الأصوليون بالعدد المعين في كل راوٍ!
والأمر لا يحتاج إلى كـثير كلام أو تشغيب، إنما يحتاج إلى إحسان ظن بأهل العلم، وحمل لكلامهم على الوجه اللائق بهم رحمهم الله!
وقد ألمح إلى هذا ابن الصلاح (ت643هـ) رحمه الله حيث قال: “ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب (ت463هـ) قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث؛ ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، و لا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه ومن سئل إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه، …، نعم حديث: “من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” نراه مثالاً لذلك”اهـ().
ولتعلم ـ وفقك الله ـ أن المحدث قد يثبت له تواتر الحديث بالنظر إلى أفراد طرق الحديث، فهو يقف للحديث على طريق أو طريقين أو ثلاثة، فيحكم عليها بما يناسبها، ثم يقف على طريق آخر، وطريق آخر، فيقوم لديه العلم بثبوت هذا الحديث، إما لكثرة الطرق، أو لصفة الناقلين، ونحو ذلك، وهكذا حتى ينشأ لديه علم نظري بتواتر هذا الحديث، فيصح بهذا الاعتبار أن الحديث المتواتر من مباحث هذا العلم!
وقد أشار الشاطبي رحمه الله إلى أن التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة على قصد طلب تواتره؛ من صلب العلم لا من الملح!().
الثانية
تفاوت الأخبار في إفادتها للعلم قضية بدهية.
إذا نزلت بمنطقة لأول مرة، ولم تعلم مطلقاً ما فيها، وجاء من يسألك هل يوجد خلف هذا الجبل نهر؟ فإنك تقول: لا أدري، يمكن أن يكون خلف الجبل نهر، ويمكن أن لا يوجد خلف الجبل نهر، فأنا خالي الذهن، والقضية عندي لا أنفيها و لا أثبتها.
فإن جاء شخص وأخبرك أن خلف هذا الجبل نهر، ووثقت به، فإن علمك بوجود نهر خلف الجبل، بعد خبر هذا المخبر، ليس كحاله قبل مجيء هذا الخبر.
فإن جاء شخص آخر ، وأخبرك أن خلف الجبل نهر، وهكذا جاء آخر و آخر، وآخر، يخبرك بأن خلف الجبل نهر فإن علمك بوجود النهر خلف الجبل يزيد ويتأكد أكثر مما حصل بخبر الرجل بوجوده في أول الأمر.
فإذا صعدت فوق الجبل ورأيت النهر فإن علمك بوجود النهر خلف الجبل، ليس كحاله بخبر المخبرين.
فإذا نزلت من الجبل واغترفت غرفة من النهر وشربت منه فإن علمك بوجود النهر ليس كحاله بخبر المخبرين وبالرؤية.
هذا المثال يوضح أن العلم يتفاوت بحسب طرق نقله وحصوله لديك، ومن هنا جاءت مسألة مراتب العلم؛ وبيان ذلك :
مرتبة الشك : وهي الحال التي يتساوى فيها عندك الأمر إثباتاً ونفياً. فأنت لا تثبت و لا تنفي.
مرتبة الظن : وهي الحال التي يترجح فيها عندك جانب على آخر، ترجحاً يسيراً. والمقابل له (الوهم).
مرتبة غلبة الظن : وهي الحال التي يترجح فيها عندك جانب على جانب ترجحاً كثيراً.
مرتبة اليقين (علم اليقين) : وهي الحال التي يترجح فيها عندك جانب على آخر، بحيث لا يبقى للجانب الآخر أي أثر.
مرتبة حق اليقين.
مرتبة عين اليقين.
ومن نافلة القول : أن علمك يتفاوت في جانب كثرة الرجحان أو قلته بحسب حال المخبرين؛ فلو جاءك الخبر عن واحد أو اثنين من أهل المنطقة ، وهم عندك من الثقات، فإنك تكتسب من العلم ما يقوم عندك مقام نقل جماعة ليسوا من أهل المنطقة، وهذه قضية ترجع إلى أوصاف الناقلين، وهي خارج البحث هنا، ولكن فقط أنبه عليها.
فمن ادعى أن إفادة الأخبار للعلم على مرتبة واحدة مهما تعددت طرق نقلها، ومهما تنوعت صفات ناقليها، فقد غالط في هذا الأمر البدهي!
الثالثة
تحرير محل نسبة أهل العلم هذا التقسيم إلى علوم اليونان وأنه مما لم يأت في كلام السلف.
إذا قيل : ما محل ما نسمعه من أهل العلم من أن تقسيم الأخبار إلى آحاد ومتواتر لم يكن من علوم السلف، وأنه مما دخل إلى الثقافة الإسلامية تأثراً لمناهج المدرسة العقلية اليونانية؟
فالجواب : لم ينكر العلماء رحمهم الله ما تقدم ذكره في النقطتين السابقتين، فهم لم ينكروا تنوع طرق النقل للأخبار، وهذا أمر واقعي عندهم، ولم ينكروا تفاوت الأخبار في إفادتها للعلم، وهذا أمر بدهي عندهم، إنما أنكروا الأمور التالية :
أنكروا حصر إفادة العلم على المتواتر، وذلك أن أتباع المدرسة العقلية الذين ساروا على خطى المدرسة اليونانية حصروا إفادة العلم على المتواتر، فعندهم أن خبر الآحاد يفيد الظن مطلقاً، والمتواتر يفيد العلم مطلقاً. أمّا جمهور أهل العلم من أهل المذاهب الأربعة فقالوا: العلم قد يستفاد من المتواتر، وقد يستفاد من قرائن أخرى، منها ما يرجع إلى صفات النافلين، ومنها ما يرجع إلى أمور أخرى كإخراج صاحبا الصحيح له أو أحدهما، أو تلقي الأمة له بالقبول ونحو ذلك.
أنكروا إطلاق القول في أن الآحاد يفيد الظن و لا يفيد القول، فقالوا: قد يقترن بخبر الآحاد ما يجعله يفيد العلم. بل قال أهل الحديث: إذا ثبت الخبر عن رسول الله r أفاد العلم وأوجب العمل.
أنكروا تقسيم أبواب الشرع إلى العقيدة والأحكام، فجعل أتباع المدرسة العقلية أبواب العقيدة لا تثبت إلا بيقين، وبما أن الأخبار لا يفيد منها العلم إلا المتواتر، فلا تثبت أمور العقيدة إلا بالمتواتر، أما حديث الآحاد فهو يفيد الظن مطلقاً، على أي حال أو صفة، فلا محل له في أبواب العقيدة، إنما محله في الشرائع والأحكام. هذا التقسيم أنكره أهل السنة والجماعة، فقالوا تقسيم الأخبار إلى متواتر يفيد العلم وآحاد يفيد الظن، والبناء على هذا أن العقيدة لا تثبت إلا بالمتواتر، فالآحاد لا محل له في العقائد، هذا أمر مردود عند السلف وأتباعهم، لأن إفادة العلم ليست محصورة في المتواتر، ولأن هذا التقسيم لأبواب الشريعة حادث لم يأت من سلف الأمة.
هذا هو محل إنكار العلماء لقضية تقسيم الأخبار إلى آحاد ومتواتر.
الرابعة
بيان أنه لا لوم على ابن الصلاح ومن بعدهم في ذكر المتواتر ضمن كتبهم في علم الحديث.
وجه بعض الناس اللوم على ابن الصلاح ومن تابعه، وعلى ابن حجر ومن تابعه في ذكرهم للمتواتر في كتبهم في علم الحديث (مصطلح الحديث)، والحق أنه لا لوم عليهم للأمور التالية:
أولاً : إنما ذكر المتأخرون المتواتر في علوم الحديث من أجل إيضاح القسمة، لا أنه نوع مستقل من أنواع علوم الحديث، فهم يذكرونه لما يتكلمون عن هيئة نقل الأسانيد إلينا، فمنها ما ينقل عن طريق الآحاد ومنها ما ينقل عن طريق المتواتر.
ثانياً : وهم لمّا يذكرون المتواتر ينصون على أنه ليس من مباحث علوم الحديث، فكيف يلامون على شيء تبرؤوا منه ونصوا على أنه ليس من مباحث الفن؟!
ثالثاً : مجرد إيراد معلومات عن أمر له علاقة بعلم الحديث ليس معناه إدخاله في مباحث هذا العلم، وهذا أمر ظاهر لا أظن أنه محل شك في قبوله! فكيف يجعل مجرد ذكرهم لهذه الأمر أو غيره أنه إدخال في مباحث العلم ما ليس منه؟!
وإليك عباراتهم التي نصوا فيها أن هذا المبحث ليس من علوم الحديث:
قال ابن الصلاح (ت643هـ) رحمه الله: “ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب (ت463هـ) قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث؛ ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، و لا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه ومن سئل إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه، …، نعم حديث: “من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” نراه مثالاً لذلك”اهـ().
قال الحافظ ابن حجـر (ت852هـ) رحمه الله: “وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل (يعني: في متن نخبة الفكر) لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد؛ إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يُترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث”اهـ().
وطبعاً كل ما جاء بعد ابن الصلاح وعمل كتاباً على كتابه علوم الحديث مشى معه على هذا، وكل من جاء بعد ابن حجر رحمه الله وعمل كتاباً على كتابه مشى على هذا!
رابعاً : هل في ذكر ابن الصلاح و ابن حجـر للمتواتر عند ذكرهما أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا، مع تنبيههما إلى أنه ليس من مباحث علم الحديث؛ عيب، أو لوم، أو شيء ينسب فيه إلى تغيير مصطلحات القوم؟!
(وهل ذكر المتواتر جرّ إلى مفسدة أو مفاسد حتى تثار حوله هذه الضجة؟
لقد جر ذكره إلى خير كثير، ودعم للسنة النبوية، ورد على من زعم ندرة وجود المتواتر في أحاديث الرسول الكريم r أو عدمه.
قال ابن حجر رحمه الله: “فائدة : ذكر ابن الصلاح أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يعز وجوده، إلا أن يُدّعى ذلك في حديث : “من كذب علي”، وما أدّعاه من العزة ممنوع، وكذا ما أدّعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة اطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقاً. ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً، المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، إلى آخر الشروط، أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير”اهـ().
فهذا تقرير عظيم يترتب على ذكر ابن حجر للمتواتر.
فلو جره ذكر المتواتر إلى باطل ونصرته؛ لحق النكير عليه، أما والأمر بالعكس فإن المنكر هو الإنكار والتشنيع عليه)() .

الخامسة
بيان خطورة مبحث إفادة حديث الآحاد للعلم، وأنه المدخل الذي يتسلل منه أهل البدع في تقرير بدعهم ، وترك العمل بسنة الرسول r.
السبيل الذي يسلكه أهل البدع في رد السنن هو قضية إفادة حديث الآحاد للظن، فتجدهم جميعاً على كل سبيل بدعة مهما توجهت به، يدندن حول أن أحاديث الآحاد ظنية، لا تفيد إلا الظن.
فالصوفية يقولون : علمكم ميت عن ميت، وعلمنا عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي.
والشيعة يردون أحاديث غير أهل البيت ومن رأوه غير مجروح من الصحابة عندهم.
والمعتزلة ومن تابعهم هذا أصلهم الأصيل، بل عندهم العقل يفيد العلم فإذا عارض الظن قدم العقل على الظن، فهم يردون الحديث بالعقل!
ولو تأملت المصنفات الأولى لأهل العلم لوجدت من أقدم الموضوعات التي تكلموا فيها قضية إفادة حديث الآحاد للعلم، وهذا الشافعي رحمه الله في مباحث الرسالة، تعرض لهذا الموضوع وتكلم فيه ، وكذا أحمد بن حنبل في رده على الجهمية والزنادقة، وكذا البخاري رحمه الله في صحيحه، تكلم عن هذا الموضوع، في آخرين.
وهذا جميعه ينئك عن خطورة الموضوع، وأنه ينبغي عدم التهاون فيه.
وقد رأيت كلاماً لابن تيميه يناسب ما نحن فيه، يقرر وجود الحديث المتواتر، ويحرر محل التعقب فيه على الأصوليين، مع فوائد أخرى، كعادته رحمه الله، فرأيت إيراده بطوله.
قال ابن تيميه (ت728هـ) رحمه الله:
“لفظ المتواتر يراد به معان؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمى متواترا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلا بكثرة عددهم فقط ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية؛ وهذا قول ضعيف!
والصحيح ما عليه الأكثرون: أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة!
وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم!
وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر يحصل العلم بمجموع ذلك!
وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة!
وأيضا فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقاً له أو عملا بموجبه يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف!
وهذا في معنى المتواتر، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض ويقسمون الخبر إلى متواتر ومشهور وخبر واحد!
وإذا كان كذلك فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق واجمعوا على صحتها وإجماعهم معصوم من الخطأ كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ!
ثم هذه الأحاديث التي اجمعوا على صحتها قد تتواتر وتستفيض عند بعضهم دون بعض!
وقد يحصل العلم بصدقها لبعضهم لعلمه بصفات المخبرين وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلم كمن سمع خبرا من الصديق أو الفاروق يرويه بين المهاجرين والأنصار وقد كانوا شهدوا منه ما شهد وهم مصدقون له في ذلك وهم مقرون له على ذلك! … … …
وأما عدد ما يحصل به التواتر فمن الناس من جعل له عددا محصورا ثم يفرق هؤلاء:
فقيل: أكثر من أربعة.
وقيل : اثنا عشر.
وقيل : أربعون .
وقيل : سبعون.
وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقيل غير ذلك!
وكل هذه الأقوال باطلة لتكافئها في الدعوى؛
والصحيح الذي عليه الجمهور: أن التواتر ليس له عدد محصور والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة كما يحصل الشبع عقيب الأكل، والري عند الشرب، وليس لما يشبع كل واحد ويرويه قدر معين بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح أو غضب أو حزن ونحو ذلك؛
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر تارة يكون لكثرة المخبرين. وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم وإن كانوا كفارا!
وتارة يكون لدينهم وضبطهم، فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم مالا يحصل بعشرة وعشرين لا يوثق بدينهم وضبطهم!
وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر مع العلم بأنهما لم يتواطآ وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك مثل من يروى حديثا طويلا فيه فصول ويرويه آخر لم يلقه!
وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به ما ليس لمن له مثل ذلك!
وتارة يحصل العلم بالخبر لكونه روى بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم ولم يكذبه أحد منهم فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان كما يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد؛ علم أن من قيد العلم بعدد معين وسوى بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطا عظيما؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى عام وخاص؛ فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة كسجود السهو ووجوب الشفعة وحمل العاقلة العقل ورجم الزاني المحصن وأحاديث الرؤية وعذاب القبر والحوض والشفاعة أمثال ذلك.
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه كما يجب ذلك في نظائره ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحته كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم إذ غير العالم لا يكون له قول، وإنما القول للعالم فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم”اهـ().
قلت: فإنكار وجود المتواتر خلاف إجماع أهل العلم، وعلى من أنكره أن يتبع إجماع أهل العلم! نعم أنكر أهل العلم المحققون حصر إفادة العلم على التواتر، كما أنكروا حصر ما يحصل به التواتر بعدد معيّن! وليس معنى هذا إنكارهم وجود المتواتر!

 أخي الفاضل إن كنت تقصد ذكر العناوين فإليك :
من الكتب المفيد في الكلام على خبر الآحاد:
1- الرسالة للإمام الشافعي، طبع بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
2- جماع العلم للشافعي، طبع مع كتاب الأم وآخره طبعة الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب.
3- الإحكام لابن حزم الظاهري، طبع بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ، لإمام الأئمة شمس الدين بن قيم الجوزية رحمه الله .
6- حجية السنة، للدكتور عبد الغني عبد الخالق، طبع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، قدم له الدكتور طه جابر العلواني .
7- الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام ، للشيخ ناصر الدين الألباني ، مكتبة المعارف بالرياض .
8- وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، للشيخ ناصر الدين الألباني .
9- أخبار الآحاد في الحديث النبوي حجيتها، مفادها، العمل بموجبها. للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين طبع سنة 1404هـ.
10- السنة تشريع لازم … ودائم. للدكتور فتحي عبد الكريم، ونشر مكتبة وهبة – القاهرة سنة 1405هـ 1985م، ويقع في 127 صفحة .
11- حجية السنة ومصطلحات المحدثين وأعلامهم ، لعبد العال محمد الجبري ، طبع الكتاب في 1407هـ ويقع في 232صفحة.
12- السنة النبوية وحجيتها تأليف الدكتور إبراهيم الكندي ، طبع دار البيان للنشر والتوزيع – القاهرة سنة 1416 – 1996م. ويقع في ثلاث وسبعين صفحة.
13- خبر الواحد وحجيته ، تأليف الدكتور أحمد بن محمود عبد الوهاب الشنقيطي ، الطبعة الثانية 1422هـ ولم أقف على الطبعة الأولى .
14- السنة النبوية حجية وتدوينًا لمحمد بن صالح الغرسي ، الطبعة الأولى دار نور المكتبات – مؤسسة الريان – بيروت 1422هـ في 182 صفحة.
15- التمسك بالسنة في العقائد والأحكام للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي . مكتبة الغرباء الأثرية – المدينة المنورة ، الطبعة الأولى 1417هـ في 74 صفحة.
ويمكنك الاستفادة من الكتب الموجودة على هذا الرابط :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=3845

أضف تعليق